سؤال قد يدور في أذهان الكثيرين وهو
كيف أستطيع أن أجمع بين عدم الأمن من مكر الله و الخشية من سوء الخاتمة من جانب، و بين حسن الظن بالله من جانب آخر؟
إن المؤمن الموحد المحسن ، حبه لله تعالى مقرون بالإجلال والتعظيم ، حب المخلوق المقهور الضعيف لله الواحد القهار.
ولذلك فإن المحبين الصادقين في مقام موزون بين الرجاء والخوف
فرجاؤهم معلق برحمة الله تعالى ، ولا يخافون إلا الله ، بل هم أشد الناس خوفًا من الله تعالى،
وقد جمع الله تعالى أركان هذا المقام الإيماني الإحساني الرفيع في وصفه للملائكة المقربين والأنبياء المرسلين والصالحين العابدين فقال جل جلاله :{أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً }الإسراء57
لكي يبقى المسلم مطمئناً ومتيقظاً ، يحدوه الأمل والرجاء في رحمة الله ومغفرته وهو كذلك يخشى ويخاف من الله سبحانه ، وهذا هو المنهج الوسط العدل .
وقد ذكر الله - تعالى - الخوف مقرونًا بالرجاء في كتابه الكريم في مواضع كثيرة؛ منها قول الله - جلَّ جلاله -: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء ٱلَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ ٱلآخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو ٱلألْبَابِ} [الزمر: 9]، وقوله تعالى: {ٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ وَأَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 98].
إذن المؤمن يعيش بين الخوف والرجاء. ويُرجِّح المسلِم جانب الخوف في حال الصِّحّة ، لِيَحْمِله ذلك على إحسان العمل والاجتهاد فيه .
أما عند حضور الموت فيُرجِّح جانب الرجاء ، لِيَحمله ذلك على إحسان الظنِّ بِربِّـه .
قال أبو علي الروذباري : الخوف والرجاء كجناحي الطائر إذا استويا استوى الطيروَتَمّ طيرانه ، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص ، وإذا ذهبا صار الطائر فيحد الموت .
فحدُّ الاعتدال في ذلك أن تُغلِّب جانبَ الخوْف عند الحاجة إليْه، وتغلِّب جانب الرَّجاء عند الحاجة إليه، فالمرءُ عند كثْرة العصيان مع شدَّة الخوف يَحتاج إلى تغليب الرَّجاء على الخوْف، أمَّا العصيان مع الأمْن، فصحابُه بِحاجةٍ إلى تغليب جانب الخوف على جانب الرَّجاء.
قال ابن القيِّم: "السَّلف استحبُّوا أن يُقَوِّي في الصِّحَّة جناح الخوْف على جناح الرَّجاء، وعند الخروج من الدُّنيا يقوِّي جناح الرَّجاء على جناح الخوْف، هذه طريقة أبي سليمان وغيره".
وقال: "ينبغي للقلْب أن يكون الغالب عليه الخوف، فإذا غلب الرجاء فَسَدَ".
والمسلم مأمور بأن يُحسِن العمل ويُحسِن الظنّ بِرَبِّـه .وهذا هو شأن الأنبياء والصالحين .
أما الأمن مِن مكر الله فإنه يكون مع إساءة العمل ، وهذا دأب المنافقين ، وحال الغافلين المعرِضين .
ويختلف الرجاء عن الطمع في كون الرجاء مع إحسان العمل ، والخوف من عدم القبول ، والطمع مع إساءة العمل .
قال معاذ بن جبل رضي الله عنه : سَيَبْلَى القرآن في صدور أقوام كمايَبْلَى الثوب فيَتَهَافَتْ ، يقرؤونه لا يجدون له شهوة ولا لذّة ، يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب ، أعمالهم طمع لا يُخالِطه خوف ، إن قَصَّرُوا قالوا : سَنَبْلُغ ، وإن أساؤوا قالوا : سَيُغْفَر لنا إنا لانشرك بالله شيئا ! رواه الدارمي .
قال الحسن البصري رحمه الله : عَمِلُوا والله بالطاعات واجتهدوا فيها ،وخافوا أن تُرَدّ عليهم ، إن المؤمن جَمَعَ إحسانا وخشية ، والمنافق جَمَع إساءة وأمْـنا .
فالمؤمن يُحسِن الظنّ بِربِّـه ، ويَخاف مِن ذنوبه .
إذا المؤمن يَخاف من سوء الخاتمة وأن تخونه ذنوبه .. فيكون وَجِـلاً خائفاً ، إلا أن هذا الخوف لا يَحمِله على القنوط من رحمة الله ..
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : الخوف المحمود ما حَجَزَكَ عن مَحَارِم الله .
والمؤمن يَرجو رحمة ربِّـه ، إلا أن هذا الرجاء لا يَحمِله على الاعتماد على سَعة رحمة الله .
فإن رحمة الله لا تُنال بالأماني !
قال تعالى : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ)